عناصر الوحدة الوطنية في الفكر الصوفي

عناصر الوحدة الوطنية في الفكر الصوفي

د. رمضان حينوني

 

تمهيد:

 ما من  فكرة تنطلق من مبدأ إسلامي أصيل إلا ويكون لها دور في خدمة الإنسان، ذلك أن الله تعالى إنما جعل الدين لتحقيق سعادة الإنسان في الدنيا والآخرة انطلاقا من عبادته لخالقه وخشيته منه. فالله تعالى عندما قال: وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون” فإن العبادة كما نظر إليها العلماء تفرعت إلى ضروب كثيرة منها العمل على تحقيق السعادة للإنسان من خلال السعي إلى استقراره وأمنه وحفظ مصالحه.

والتصوف من الأفكار التي اصطبغت بالصبغة الإسلامية على الرغم من الأشكال الصوفية الموجودة في كثير من العقائد والملل وبخاصة في النصرانية. ولقد اختلفت الآراء في الفكر الصوفي بين ناظر إليه على أنه جملة من الأفكار الانهزامية المسنودة بالبدع والخرافات، وبين ناظر لها على أنها صفاء روحي وعلاقة خاصة بين الصوفي وربه، ويبدو أن الصورتين معا شهدتا حضورا في الواقع الإسلامي على مر الزمن، غير أن الصورة الأولى شوهت الثانية إلى حد كبير إلى درجة أصبح فيها مصطلح “التصوف” مثارا للجدل والانتقاد والاتهام، مما دعا كثيرا من المفكرين إلى التأليف في هذه المسألة وتسليط الضوء على حقيقة هذه الظاهرة.

ورغبة في إعادة فكرة التصوف إلى حقيقتها اختار بعض من الدارسين[1] مصطلحات بديلة تأخذ شرعيتها من القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة مثل” الإحسان” أو ” التزكية” من خلال قوله صلى الله عليه وسلم:”  الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك” أو التزكية التي تستمد من قوله تعالى:” هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ظلال مبين”[2]. غير أنه إذا كان مصطلح” التصوف” في معنى معناهما وروحهما فلا إشكال فيه وفي تداوله، كما لا قدح في طرقه ومريديه والمنتسبين إليه.

التصوف من الذاتية إلى خدمة المجتمع:

من المهم جدا أن ندرك أن أي إصلاح يبتغيه الفرد لا بد أن يبدأ فيه من ذاته، ثم الأقرب فالأقرب وصولا إلى الجماعة الكبيرة. وإذا استعرضنا مجمل الأقوال التي قيلت في التصوف وجدنا أنه يجمع الزهد والأخلاق والصفاء والمجاهدة والالتزام بالشريعة والعبودية التامة والتسليم الكامل وترك التكلف والاهتمام بالشكليات[3]، وهذه الصفات المتكاملة كفيلة بجعل المرء مستقيما في سلوكه، قدوة  لغيره.

يقول أبو الوفاء الغنيمي:” التصوف إذن أولا وقبل كل شيء تجربة خاصة ، وليس شيئا مشتركا بين الناس جميعا”.[4]وعليه، فإنه سلوك ذاتي يبذل فيه الفرد قصارى جهده لبلوغ الصفاء الروحي الذي يشكل المرحلة الأولى في مسار المتصوف وهي مرحلة الفرار من الخلق إلى الحق كما تدل عليه أدبياته. وهكذا يعمل هذا السلوك “على قيام علاقات بين الإنسان وأخيه الإنسان لا تتحكم بها الغرائز، ولا تسلم قيادتها على الشهوات والجنوح على الاستعباد والإلحاق، فهو يسمو على هذا كله، لأن هدفه الأول والأخير إيجاد الإنسان الفاضل، والظفر برضوان الله وحبه” [5] 

 أما المرحلة الثانية فهي العودة إلى عالم الخلق بعد إدراك وصفاء، وهذا المسار الثاني هو الذي يقع فيه الاحتكاك بالناس والمجتمع، ويؤدي فيه الصوفي دوره الإصلاحي في أشكاله المختلفة. فالإمام الغزالي مثلا انتقل من الانشغال بالذات إلى الانشغال بالأمة حين كن يرى ما يلحق المسلمين من أدى يسلطه عليهم الجبابرة والظالمون [6] ، إن هذا الانتقال طبيعي؛ فالرسول الأكرم صلَّى الله عليه وسلَّم يقول فيما رواه  البخاري يقول:” لا يؤمن أحدكم حتى يحبَّ لأخيه ما يحبَّ لنفسه” وإذا كان الصوفي يبتغي الصفاء ونشدان الكمال في التقرب إلى الله، فكيف لا يريد ذلك أيضا للخلق الذين يلتقي بهم ويجالسهم أو يعيش بين ظهرانيهم؟ فالصوفي “يقدّم نفسه- بالإضافة إلى كونه مهذب نفوس مريديه- كمصلح ديني من مهامه تجديد أمر دين هذه الأمة وتبليغ الإسلام إلى الناس وحفظ الروحانية التي تزخر بها شريعة الإسلام، فهو بهذا الاعتبار مربي عام ومربي خاص، فكونه مربيا عاما هو من جهة البلاغ والوعظ، وكونه مربيا خاصا لجهة تهذيب نفوس أتباعه وترقيتهم روحيا. إذن الصوفي الحقيقي ليس هو الذي يعزل نفسه وغيره بين جدران زاويته ويعتني بالرسوم والأوراد من دون العناية بالمجتمع الذي لا يمكن إهماله فالمجتمع هو مجال تفعيل تعاليم التصوف التي يقتضيها القرآن الكريم وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم.”[7]

بل إن الفكر الصوفي يذهب إلى أبعد من ذلك حين يوسع من أفق الاهتمام بالإنسان أو بالآخر وإن كان مختلفا، وهذا” البعد الكوني الشمولي للخطاب الصوفي، بما هو رؤية عالمية روحية تتجاوز المنفعة المادية والتمايز بين الإنسان وأخيه الإنسان على أساس العرق أو اللون أو المعتقد، وصولا إلى التماهي مع صورة المثال المتمثلة بالخالق، والفناء فيه بالمحبة ، ما يسهم في خلق تواصل وحوار حقيقي بين أهل الديانات و الشعوب على قاعدة الاحترام المتبادل ، وقمع الشهوات ، ونبذ العنف، والاصطراع المدمر بين بني البشر.” [8]

وعلى الرغم من بعض السلبيات التي ترتبت عن هذا الانفتاح على الآخر خصوصا في حقب زمنية معينة استغلها الأعداء للسيطرة على عقول المستضعفين، فإن القاعدة في عمومها ليست منحرفة ولا انهزامية، بل لا بد من تثمين وتشجيع تلك ” النزعة الإنسانية العالمية التي بشر بها الخطاب الصوفي، وحب المتصوفة الذي يشمل الإنسانية كلها دون تفرقة بين دين ودين وناس وناس وبلد وبلد” [9] حين لا تضر بالمجتمع ولا تؤدي إلى التنازل عن الخصوصيات العقدية للأمة أي حين تكون منطلقة من وعي وإدراك لأبعاد العلاقة بالآخر لا من غفلة قد تقصر عن إدراك المخاطر المحدقة المحتملة.

إن الاستفادة من الطاقة الروحية للفكر الصوفي ضرورية لنهضة الأمة، وبخاصة إذا كانت منطلقاتها روحية مثل الأمة العربية الإسلامية، وصحيح أننا ” إذا عاشرنا المتصوفة في جميع بقاعهم وعصورهم ودياناتهم وجدنا وحدة الطابع لموقفهم من الحياة … ولوجدنا أنهم دعاة أمن وسلام ومحبة، لا يعميهم التعصب، ولا يحجرهم الجمود ولا يتأبى عليهم تذوق الجمال، ولا تنقصهم الشجاعة وإنكار الذات، ولا تقصر ملكات التفكير فيهم، ولا يفزعهم ما يفزع أغلب الناس، وما أربح الأمة إذا استطاعت أن تستمد من هذه الينابيع طاقتها الروحية التي هي نماذج حية وترجمة واقعية للب الدين وجوهره” [10] .

وإذا علمنا أننا في عصر العولمة وأفكارها وفلسفاتها، أدركنا حاجة الفكر الصوفي إلى النزول بقوة إلى المعترك الاجتماعي ليس لمحاولة الوقوف أمام مد العولمة العاتي، بل ليسخر ما توفره من وسائل للتخفيف من آثارها السلبية؛ خاصة إذا علمنا أن” فئة المريدين في عصر العولمة أصبحت على شروط علمية وثقافية تتجاوز أحيانا قدرات (الزاوية) الفكرية والدينية والثقافية، (والزاوية) بأساليبها التربوية التقليدية والإمكانيات القديمة والمحدودة الأفق قد لا تنهض دينيا وروحيا بهؤلاء المريدين الشباب والكهول الذين قولبت العولمة سلوكياتهم”[11]، والذين ما زالوا يرون في التصوف هو القادر على أن يستوعب ” جميع أفراد المجتمع على اختلاف أعمارهم وأنواعهم ومكانتهم وتوجهاتهم ومشاربهم، وجذبتهم إلى تسامحها وتفسيراتها “المرنة” للدين ونبذها التطرف.”[12]

التصوف والوحدة الوطنية في الجزائر:

الدفاع عن الوطن في حال الخطر:

       تضاربت الآراء حول مساهمة الفكر الصوفي في الدعوة إلى الجهاد ضد المحتلين للبلاد الإسلامية عبر العصور، من راء بأنهم انعزلوا عن المجتمع وانقطعوا إلى عباداتهم وطقوسهم، ومن مخالف لهذا الرأي ومثبت بالأدلة التاريخية عكسه. ونعتقد أن مبعث الخلاف هذا إنما يتمثل في التعميم والإجمال وعدم مراعاة الفارق بين التصوف الفلسفي والتصوف العقدي، أو بين تصوف المظهر أو الرسم وتصوف العمق والجوهر.

        وحتى إن عرف عن بعض المتصوفة تركهم للجهاد لأي سبب كان، فإن الحجة لا تقام على الفكر الصوفي كله، ففي كل اتجاه ما يشرف وما يجر الخذلان، بحسب ما يحوز الناس عليه من القوة والشجاعة والقناعة بما يفعلون.

        وقد لا نجد مثالا أفضل ولا أقرب من الأمير عبد القادر الجزائري في التمثيل لمساهمة المتصوفين في الدفاع عن الأوطان، وجمع أفراد المجتمع صفا واحدا ضد الظلم والاحتلال. يقول شكيب أرسلان فيه:” وكان المرحوم الأمير عبد القادر متضلعا في العلم والأدب، سامي الفكر، راسخ القدم في التصوف، لا يكتفي به نظرا حتى يمارسه عملا… فهو في هذا المشرب من الأفراد الأفذاذ، وربما لا يوجد نظيره في المتأخرين.”[13]

هذا الأمير الفذ هو مؤسس الدولة الجزائرية الحديثة، وهو الذي رفع راية التحرر من الاستعمار الفرنسي في أول وجوده في الجزائر، وما ذاك إلا لأنه فهم حقيقة أن يرتقي المرء إلى مراتب الحق فينزل إلى الواقع لينظر في حال بلده وإخوانه. إن السعادة التي يبلغها الصوفي نهاية المطاف بعد المجاهدة لا تمنعه من أن يسعى في خلاص الأمة التي ينتمي إليها، فكل ضرر يسكت عنه أو يتقاعس عن رفعه فسيكتوي بناره، فالظلم إذا عم لا يفرق بين الناس وإن لاذ بعضهم إلى الاستكانة والخضوع.

وتذكر مصادر كثيرة أن خيرة أبطال الجزائر قبل الثورة التحريرية كانوا من المتصوفة أو من المتأثرين بالفكر الصوفي؛ من أمثال الشيخ بوعمامة ولالة فاطمة نسومر  والشيخ بن جار الله والهاشمي بن علي دردور وغيرهم.

الحفاظ على الهوية الوطنية:

من الطبيعي أن يهتم الفكر الصوفي بالجانب الديني من الهوية أكثر من اللغة، فالمنطلقات والمرتكزات دينية، والأهداف الكبرى كذلك، خاصة في ظل فكرة تقليص الحدود بين بني البشر كما أسلفنا. فهذا الشيخ عدة بن تونس يقول منتقدا التوجه نحو الاهتمام بالعروبة قبل الإسلام:”نرى كثيرا من إخواننا من كتاب اليوم، ينوهون كثيرا بالجنسية العربية، وينسون فضل الإسلام عليها، لأن العرب قبل الإسلام، لم يكونوا إلا أمة مترامية الأطراف في أنحاء الجزيرة العربية… حتى جاء الإسلام، فجمع قلوبهم على الإسلام… وجعلهم أمة تذكر من بين الأمم بأخلاقها العالية: من عدل وشهامة، واقتدار، كل مكتسب من فضل الإسلام على العرب، وعليه ليس من الإنصاف أن ينوه الكاتب بفضل العروبة على الإسلام، متناسيا فضل الإسلام على العروبة.” [14]

غير أن ذلك ليس قدحا في العربية ولا في أهلها، غاية ما هنالك أن الصوفية ترى أن الرابطة الكبرى التي تجمع أفراد المجتمع بطوائفهم وانتماءاتهم المختلفة إنما هي الإسلام، فهو يجمع العربي والأمازيغي والفارسي والحبشي وغيرهم، من حيث لا تستطيع لغة كل منهم أن تقوم بذلك. ولا بأس بعد رابط الدين أن يكتب أو يتكلم أو يتواصل بما شاء من اللغات. ولقد كان الحاج أسعيذ ناف أفليق (دائرة آزفون)، أحد أعلام الشعر الديني الأمازيغي البارزين في النصف الأول من القرن العشرين في الزواوة الغربية، [15]

أما الوطنية وهي الركن الثالث الأساس في بناء الهوية القوي، فلا أحد ينفي عن المتصوفة حبهم أوطانهم ودفاعهم عنها، خصوصا إذا كانت عرضة للمخاطر عملا بمبدأ حب الأوطان من الإيمان عندما تكون ديارا للإسلام.

ولقد تعززت الهوية الوطنية من خلال النشاط التعليمي الذي قامت به الكثير من الزوايا العلمية التي تستقبل الطلاب والزوار والمريدين من جميع أنحاء الوطن، بما توفره من مأوى وإطعام ورعاية ، بمساهمة العمل الخيري والأوقاف التي اعتبرت عبر الزمن شريان الحياة بالنسبة لتلك الزوايا.

إن الهوية الصوفية لا تغطي على هوية الانتماء الوطنية أو القومية غطاء كاملا، بل إن الأولى تفسح للثانية مجالا للبروز بشكل واضح كلما كان ذلك ضروريا، أو كلما تطلبت الظروف ذلك. أي أن الأولى تظل مسيطرة سائدة حتى يستدعي الأمر بروز الثانية فتكشف عن نفسها في أشكال قولية أو فعلية قد تصل إلى حد بذل النفس من أجل ذلك.

خاتمة:

نخلص في نهاية هذه الورقة إلى أن الفكر الصوفي يخضع في تقييمه إلى أحكام نسبية، يجب أن تراعي المنطلقات والمقولات الأصلية أكثر مما تراعي الأشكال والتصرفات الخاضعة للعوامل والظروف الخارجية، وما يعتري هذا الميدان من تداخل مع كثير من التيارات الفكرية والفلسفية. فالفكر الصوفي في بساطته منبع للإصلاح والتفات إلى أهمية الحضور الاجتماعي للشيخ والمريد على حد سواء، حتى تتحقق الأخلاق التي يرتكز إليها الصوفي ويسعى إلى تعميمها.

ولقد استطاعت الزوايا الصوفية في الجزائر في أغلبها أن تدعم مسار الأخوة والتآزر بين أفراد المجتمع، في زمن المحن والشدائد كما في زمن الرخاء والفرج، وما تزال تقاوم العولمة التي تصبو إلى التهام الخصوصيات وانصهارها في فكر القوي اقتصاديا، دونما التفات إلى حاجة المجتمعات إلى هذا الرافد الروحي العظيم، الذي يعد السلم والأمان والأخلاق من أبرز دعائمه. 

 

دفاع عن التنوع الثقافي في المغرب الكبير

دفاع عن التنوع الثقافي في المغرب الكبير 1

 الطاهر بن جلون 

 

ترجمة: د. رمضان حينوني 

يبدو المغرب العربي على الصعيد الثقافي لغزا مقارنة بالمشرق العربي.. هو مغرب عربي، أو هو معلن كذلك رغم أنه لا يبدو كذلك في القاهرة.  ومن المؤكد إننا نعتبره عربي الهوية سياسيا، لكن لا يعتقد أنه يساهم بإبداعه الثقافي في هذه الهوية بجهل أو تجاهل شريحة هامة منه ، يتعلق الأمر بالأمازيغ.

إن الذي يميز أصالة الثقافة المغاربية مقارنة بباقي الدول العربية والإفريقية هو هذا الغنى والتنوع الثقافيين على مستوى اللغة والموسيقى والعادات والمظاهر. وفي  أعمال(حاييم زفراني) وهو يهودي مولود في المغرب، دليل على أصالة وخصوصية هذه الثقافة.

ورغم الرفض الذي قوبل به دخول الاستعمار، والمقاومة التي واجهها بكل الإمكانات، فإن الثورة التحريرية قد قادت الجزائريين والمغاربيين إلى البقاء في حالة انفتاح على أوروبا.. لقد وجهت، وأحيانا استغلت العناصر الإيجابية في ثقافته على غرار اللغة وبشكل أقل توفيقا النظام الإداري والبيروقراطي.

ويبدو أن الشعب المغاربي في طريقه إلى اعتماد العنف المؤدي إلى الفوضى، وإجباره على التقوقع على الذات وغلق الأبواب والنوافذ في مواجهة المتطرفين الذين يجعلون المعركة ثقافية إيديولوجية .

لقد تعرضت الهوية المغاربية إلى التمزق بفعل الاستعمار، وبخاصة في الجزائر التي عانت أكثر من غيرها وفقدت جزءا هاما من كيانها. والذين يريدون لها ذلك يقترحون لها هوية جاهزة هي الإسلام، بينما لم تتميز الثقافة المغاربية أبدا بالطابع غير الدبني، وأيضا بدرجة أقل بطابع الإسلام .. فباسم الوحدة الإسلامية حاربت هذه الشعوب الاستعمار وهزمته، لكن على العموم فإن الثقافة المغاربية لها جوانب وثنية في بعض المظاهر مثل الزوايا والأضرحة والصالحين ….

إن الأصالة هي الاختلاف.. هي أن يكون المرء في بيئة ولا تحده الحدود.. هي القدرة على إضافة شيء جديد إلى الثقافة العالمية، والعمران أفضل شاهد خاصة ذلك الذي نجده في القيروان وفاس تماما كما الطريقة التي نسكن بها الصحراء. والموسيقى الشعبية، مثل تلك التي نجدها في الجبال والهضاب.. والموسيقى الكلاسيكية، تلك الموروثة من عرب الأندلس، إضافة إلى الملحون، ذلك الشعر الأسطوري المغنى.. كلها تؤسس للأصالة وتواجهها الموسيقى الهجينة التي هي نصف شرقية ونصف غربية كالتي نجدها في مصر وبعض دول الخليج.

واليوم، تبدو الموسيقى المغاربية التي نجحت بفضل ألحانها صادمة حين تغنيها فرق شبانية التزمت بالتقاليد وبقيت في هامش الحداثة مثل(ناس الغيوان) و(جيل جيلالا) في المغرب، أو موسيقى الراي في الجزائر التي أحدثت اضطرابا في النموذج الموسيقي المغاربي.

في المجال الأدبي ظهرت أصالة قوية، وعلى العموم فإن الرواية المكتوبة باللغة الفرنسية هي التي اخترقت النظام الاجتماعي واقتحمت الطابوهات وخاصة في مجال الجنس. فمجرد الكتابة بالفرنسية سمح للكتاب بالذهاب بعيدا في النقد، بينما العربية –لغة القرآن- فتبدو أقل جرأة في هذا الميدان. لكن الأصالة الرئيسية لهذا الأدب تكمن في ارتباطه باللغة الفرنسية التي تحوله وتغنيه من خلال ترجمته في المخيال المغاربي الأكثر سرية أحيانا.. هذه المحاولة التي تهدف إلى الكشف ، وهذه الأبواب المفتوحة على السري والمختبئ بإحكام تعرضت لانتقادات عنيفة من المثقفين المعربين في المغرب العربي الذين اعتبروا الانفتاح على الغرب ومد جسور التواصل معه واستعمال لغة الغير نوعا من الخيانة.

لا نستطيع الآن الحديث عن ثقافة مغاربية دون استحضار مساهمة شباب المهجر، فعلى مستوى الموسيقى أو الأغنية أو السمعي البصري أو الأدب، لا نستطيع تجاهل جيل لا يعبر بالجمع بين الثقافتين بل بطريقة ثالثة .. إنها ثقافة جديدة في طريقها إلى التشكل، لم يعترف بها سكان المغرب العربي.. هي ثقافة القطيعة والإبداع وليس لها إلا قليل من الروابط مع جذور الآباء.

وعلى العموم، فإن العنصر البارز في الثقافة، أو لنكن أكثر قربا من الواقع ، في الثقافة المغاربية سواء أكانت باللغة العربية الفصحى أو بالعربية الدارجة أو بالأمازيغية أو حتى بالفرنسية هو أن تبقى علامة دالة على إرادة حرة ومستقلة.. إنها ثقافات تنشد القيم مثل الكرامة والتقدم وحقوق الإنسان .. وربما كان الكاتب المغاربي الكبير كاتب ياسين هو من عبر عن هذه الإرادة وحارب من أجل المغرب الحر والأصيل والمختلف والمتعدد بعنفوانه وشعره وبغضبه وجماله.

1 (مقال ورد ضمن كتاب : المغرب الكبير: شعوب وحضارات Maghreb Peuples et civilisations )

ماهيّة الشّعر: جدل شِعر التّفعيلة وقصيدة النّثر (الجزء الثّالث)

ماهيّة الشّعر: جدل شِعر التّفعيلة وقصيدة النّثر (الجزء الثّالث)

فادي أبو ديب

 

مجلة خوابي الأدب

العددان 21 – 22

مناقشة ماهيّة الشِّعرية

النّظرة الجماليّة الشّكليّة:

واحدٌ من الأسئلة الجانبيّة الّتي تمهِّد للإجابة على السّؤال المطروح بشأن شعريّة قصيدة النّثر يتعلِّق بعلاقة الجماليّة بوزن وموسيقيّة الشِّعر الموزون عن طريق التّفعيلات والبحور، سواءَ كان كلاسيكيّاً أم شعر تفعيلةٍ.

فهل للوزن والموسيقا قيمةٌ جماليّةٌ شِعريّةٌ في حدّ ذاتهما أم هما عاملان من عوامل قيمةٍ جماليّةٍ تتجاوزهما؟

وبطريقة أخرى: هل الوزن الشِّعري غايةٌ في حدّ ذاته أم وسيلةٌ لإحداث إيقاعٍ معنويٍّ يقوم على الولوج في عالم الشّاعر عند القارئ، أو أخذ القارئ إلى مكانٍ يبتغيه الشّاعر؟

وطالما أنّ السّؤال عن القيمة الجماليّة فيبدو أنّ الإجابة ستكون في معظم الأحيان ذاتيّةً وليست موضوعيّةً. هل الإيقاع في قصيدةٍ موزونةٍ تصف معركةً أو شابّةً فاتنةً هو إيقاع الكلمات أم هو إيقاعُ تتابع الصُّوَر والخيالات المتلاحقة والمتراكبة والمتباينة الألوان والدّلالات؟

لو كان الهدف الأسمى للشِّعر هو الإيقاع الموسيقيّ لكان الشِّعر مجرَّد أداةٍ موسيقيةٍ قاصرةٍ أمام أيّ مقطوعةٍ موسيقيّةٍ معزوفةٍ على الآلات. وكون الشِّعر أداةً توظِّف اللّغة عن طريق الكلمات والمعاني فيجب منطقيّاً أن تكون اللّغة هي الأولويّة من حيث كونها وسيلة تعبير تتعلّق بالمعنى والخيال والعاطفيّة الّتي تثيرها التّراكيب والعبارات والصُّوَر والأساليب البلاغيّة، ويكون الإيقاع هو تتابع الحوادث الفِكريّة والوجدانيّة الّتي تثيرها اللّغة.

وانطلاقاً من هذا المعنى الجديد للإيقاع، يظهر بأنّ لقصيدة النّثر إيقاعيتها الخاصّة. ويبيّن رمضان حينوني هذا الوجود الموسيقيّ، حيث يتخذ من أعمال محمد الماغوط نموذجاً لقصيدة النّثر الّتي تبتعد تماماً عن الأوزان والموسيقيّة المعروفة للشّعر الكلاسيكيّ وشعر التّفعيلة؛ فيصنِّف الإيقاعات في قصيدة النّثر إلى ثلاثة أنواعٍ: أوّلها إيقاع التّقابل[1] الّذي يعني وجود جملٍ أو صورٍ متضادّةٍ في المعنى أو الإشارة، فمثلاُ يقول الماغوط في قصيدة “الحِصار”:

دموعي زرقاء

من كثرة ما نظرت إلى السّماء وبكيت

دموعي صفراء

من طول ما حلمت بالسّنابل الذّهبية[2].

في المثال السّابق تتباين بوضوحٍ الدموع الزرقاء والدّموع الصفراء. أمّا صورتا النّاظر الباكي إلى السّماء والحالم بالسّنابل الذّهبيّة، فيجعلان القارئ يقف على مفترق طُرُقٍ بين عالَمين من الألوان والصِّفات. فإذا تتابَعت هذه التّقابلات عدّة مرّات في القصيدة، فإنّها تجعل القارئ كمن يحلّق بجناحين، فيخترق تِباعاً طبقاتٍ هوائيّةٍ تصطفّ بالتّبادل؛ فمرّة يشعر بالفرح وبعدها ينتقل للأسى، ثمّ يعود للأمل وبعدها ينطوي في قوقعة القنوط، ليخترق بعدها عالماً أبيضَ يتبعه السّواد مباشرةً، وهكذا. كلّ هذه الصُّوَر تتابَع من خلال ثنائيّات من الجمل القصيرة والطويلة، الّتي تسمح للقارئ أو السّامع أن يعيش حالة توقّعٍ داخليٍّ لطبيعة ونوع وزمن الدَّفقة اللّونيّة أو التّصوُّريّة القادمة.

أما ثاني أنواع الإيقاع النّثريّ فهو إيقاع التّعداد[3]، حيث يعتمد الشّاعر على تعداد عناصر معيّنّةٍ، ممّا يخلق في نفس السّامع أو القارئ شعوراً بموسيقا خفيّةٍ تنسرِب على طول القصيدة، ومجدّداً يُشار إلى الماغوط في قصيدة “النخاس”:

عندي غبارٌ للقرى

رمدٌ للأطفال

وحولٌ للأزقّة

وحجارةٌ لصنع التّماثيل وقمع المظاهرات

عندي آبارٌ للتّذمّر

أمّهاتٌ للحنين

أرصفةٌ لبيع الزّهور

وغاباتٌ لصنع السّفن والقباقب وسواري الأعلام[4].

وثالث أنواع الإيقاع هو إيقاع التّكرار[5]، وهو حين تتكرّر كلمةٌ ما أو جملةٌ بشكلٍ ملفتٍ، يجعل القصيدة أيضاً تتحوّل إلى ما يشبه الأغنية الّتي تحتوي على لازمةٍ تنطلق منها المراحل الموسيقيّة المختلفة، وفي قصيدة “دروس في اللّغة الصّينيّة” يظهر التّكرار واضحاً:

أيّتها الأرصفة..

سأريحك من خطواتي

أيّتها الجدران..

سأريحك من ظلّي

أيّتها السّنابل..

سأريحك من أسناني

أيّها الأطباء..

سأريحكم من سعالي

أيّها النّائمون..

سأريحكم من غنائي[6].

وكما يظهر من المثال الأخير، فإنّ وجود نوعٍ ما من الإيقاع يمكن له أن يوجَد إلى جانب نوعٍ آخر، حيث يُلاحَظ وجود تكرارٍ مع ورود تعدادٍ يسمح للقارئ أو السّامع أن يشعر بتتبّع نبضاتٍ متساوية الطّول، تولِّد في نفسه أثراً حماسيّاً متواتراً، يُساهِم في مُراكمة المعنى، بشكلٍ يوصل الفكرة المطلوبة شيئاً شيئاً وبانتظامٍ.

ويمكن أيضاً تلمّس ملامح صنفٍ آخر من الإيقاعات في قصيدة النّثر، ألا وهو ما يمكن تسميته بالإيقاع البنائيّ، وهو الإيقاع النّاجم عن الدّفعات التّصويريّة الّتي تعمل على بناء عالم النّخيِّلة عند القارئ أو السّامع، بشكلٍ يجعل الانتقال إلى عالم الشّاعر متدرِّجاً عن طريق استخدام أفعالٍ تمنح المشهد الموصوف انبثاقاتٍ تصوّريّةً جديدةً من زوايا مختلفةٍ وطبقاتٍ متعدّدةً تتكامل في ذهن المتلقّي بشكلٍ تسلسليٍّ سلِسٍ، فتجعله كَمَن يصعد سلّماً بخطواتٍ متتابعةٍ منتظمةٍ كدقّات ساعةٍ، والقصيدة التّالية تظهر المقصود بالإيقاع البنائيّ:

الثّالثة بعد حلول السّماء

خرجَت من بابها كالشَّبَح

ترقُب خيالها المولود من الشَّمس الزّرقاء

قطفت خصلتي زعتر وغاصت في رائحة وِلادة التّراب

اختُطِفت روحها مع شذى الجوري الواعد/

أسفل الوادي الغارق…/

عشرون ألف قدمٍ نحو الجنّة في الأسفل.

***

قال لها وهو يلثُمها قبل ألف عامٍ أنّه ينتظر

على صدغِهِ علامةُ الضّوء/

إن عرفَتْ ما هي!

على ساعدهِ عَصابةٌ من قُرمُزٍ/

لا يراها إلّا الدّاخلون إلى سَرائِر المملكة.

***

ألِفَت منذ سنوات السّقوط/

قراءة علامات الشُّهُب

انتظرت قدوم المَدّ… استعدّت للغَرَق.

حافيةً، عمّدت ثوبها بعِطرٍ باقٍ من لحظة القُبلة

خَطَت في البحر وغابتْ[7].

في القصيدة السّابقة عدّة “زوايا” مكانيّةٍ أو حَرَكيّةٍ تتشكّل في طبقةٍ أولى هي طبقة شخصية الأنثى (في السّاعة الثّالثة خرجت… ترقُبُ… قطفتْ وغاصت… اختُطِفَتْ)، وهنا تساعد الأفعال لتكوين صورةٍ بانوراميّةٍ من زوايا مختلفةٍ، ثمّ طبقةٍ ثانيةٍ مختلفةٍ زمنيّاً ومكانيّاً (قبل ألف عامٍ “قال لها”… “يلثمها”) ومن ثمّ تأتي أيضاً الصّورة البانوراميّة لتكمل المشهد من بعض زواياه (على صدغه… على ساعده)، ثم طبقةٍ ثالثةٍ تعود إلى شخصيّة الأنثى في زمانٍ غير محدَّد، حيث تساعد الأفعال الواردة بشكلٍ متتابعٍ سلسٍ على اكتمال صعود السّلّم التّصوّري بنفس الانتظام الّذي لا يوغل في السّرد (ألِفت… استعدّت… انتظرت… عمّدت… خَطَت وغابَت). ومن ثمّ بعد عرض هذه الأنواع الأربعة المقتَرَحة للإيقاع، يمكن طرح هذا السّؤال البلاغيّ: أوَلَيس الإيقاع هو ذلك التوقّع الدّاخليّ الّذي يسمح للمتلقّي أن يتدرّج مع القصيدة صعوداً أو هبوطاً، ولوجاً إلى العمق أو انطلاقاً نحو الفضاء، وهو يعلم أنّ العالم من حوله أصبح سائراً وفق دفقاتٍ أو نبضاتٍ يُحمَل بها بأمان نحو المعنى المنشود؟

النّظرة المعنويّة:

يرى أدونيس أن التّمسّك بشكلٍ أو بآخر من النَّظم كممثّلٍ أوحدٍ لحقيقة الشِّعر العربيّ هو نتاج النّهضة العربيّة في القرن التّاسع عشر والتي سعت إلى بعث الأشكال والصِّيَغ التّعبيريّة العربيّة للحفاظ على الهويّة العربيّة[8]. ومهما تبلغ دقّة هذا التّحليل الّذي يقدِّمه أحد نقّاد تراث العربيّة والمحافظة على التّقليد الشّعريّ التّراثيّ القديم (أي أدونيس)، فإنّ الموقف الّذي يرفض شِعريّة قصيدة النّثر يحتاج إلى تقديم مبرِّرٍ قويٍّ لهذا الرَّفض. وأمّا إن كان هذا الموقف لا يرفض شعريّة Poeticality هذا النمط الأدبيّ، ولكنه يرفض أن تُسمّى شعراً Poetry، فإنّ هذا الموقف يزيد الأمر غرابةً، لأنّه يفصل بين الشِّعر والشِّعريّة، وكأنّ الشِّعريّة يمكن أن تقدِّم روح الشِّعر من دون أن تكون شِعراً.

وإذا كان الأمر كذلك، فيبدو التّمايز مجرَّد تمايزٍ لغويٍّ بين مصطلحين، وغَرَق في حرفيّة نَزَويّة، من دون وجود مبرِّرات موضوعية للفصل بينهما إلّا الرَّغبة في قصر تعريف المصطلح التّقني على خصائص معيَّنةٍ يراها الشّاعر أو النّاقد صاحب الرّأي أوجب من غيرها. وهنا يبدو الأمر من دون قابليّةٍ للتّعريف، فإذا احتجّ شاعرٌ ما بأنّ الوزن والقافية هي محدِّدات الشِّعر المبدئيّة، جَعَل من المعنى ثانويّاً وفتح الباب للتكلّف والتّصنّع، فيصير الشِّعر مطيّةً لمن جزُلت لغته وليس لمن اتّسعت روحه، ونازك الملائكة نفسها تقرّ بخطأ هذا المفهوم العربيّ التّقليديّ القديم[9]. وإذا جعل آخرٌ الوزنَ والقافيةَ على قدم المساواة مع المعنى والصّورة والقدرة على شحذ خيال السّامع والقارئ، يمكن أن يحتجّ كاتب النّثر أيضاً بأنّ قدرته على إيصال الصّورة وشحذ الخيال وإثارة الحلم لا تقلّ عن ناظم النّصّ الموزون المُقفّى، وأنّ الوزن الّذي هو وسيلةً لأجل غايةٍ قد استُعيض عنه بوسيلةٍ أخرى. ولعلّ صاحب هذا الرّأي الأخير يرى بأنّه لا يمكن لأحدٍ أن يجزم بأنّ الوزن أكثر وقعاً في النّفس من اللّاوزن؟

ورغم أنّ نازك الملائكة تحاول أن تعتبر هذا الأمر مفروغاً منه[10]، إلّا أنّ هذا الادّعاء يمكن أن يكون موضع شكٍّ تماماً كما هو حال المثال السّابق الّذي ناقش موضوع التّفعيلات الخمسة في شطر القصيدة الّتي تتبع نمط شعر التّفعيلة. ولكن من الواضح أنّ لا شيء في النّهاية يمكن أن يجبر المُتمسّك بضرورة الوزن على حذف هذا العامل من أساس منهجيّته في تعريف الشِّعر، والأمر نفسه ينطبق على المعتقد بجواز حذف الوزن من دون أن يخلّ هذا بأحقيّة إطلاق مصطلح “الشِّعر” على قصيدة النّثر. ولعلّ نازك الملائكة نفسها، وهي أحد أشدّ نقّاد قصيدة النّثر من حيث كونها “شِعراً”، تقدِّم في نقدها لخطأ القدماء في حصر الشّعر في “الكلام الموزون المُقفّى” أساساً لنقد نظريّتها حول وجوب الالتزام بالوزن من حيث المبدأ!

وتأكيداً لمفهوم غائيّة الوزن في الشّعر العربيّ القديم وعدم قدسيّته المطلقة في حد ذاته يشير كمال أبو ديب إلى ارتباط الإيقاع بالبنية الفكر-نفسية، وأنّ الكتابة بالإيقاع القديم (الناجم عن الوزن القديم) هو في الحقيقة تغييرٌ لبنية الشّعر العربيّ بما هي مرتبطةٌ بالبنية العقليّة للإنسان اليوم. ويقدِّم أبو ديب هذا المفهوم الجديد بطريقةٍ ملفتةٍ:

ثمّة شيءٌ يبزغ في حياتنا جديدٌ. بنيةٌ جديدةٌ يعجز الإيقاع التّراثيّ عن بلورتها وتجسيدها. بل إنّه ليشكّل نقيضها المباشر: الكتابة بإيقاعٍ تراثيٍّ هي في الواقع إدخالٌ لبنيةٍ مغايرةٍ وتأكيدٌ لهذه البنية في الضّمير العربي الحديث. لذلك قد يشعر المتلقّي بالقلق واللّاتوازن بأنّ شيئاً يحدث منفصلاً عنا، متحرّكاً في مجالٍ غريبٍ على الذّات.

خلق إيقاعٍ شعريٍّ حديثٍ إذن ليس عملاً مُفتعلاً، إنّه حتميّةٌ تاريخيّةٌ. ولقد جاء حتميّاً ودور المؤثّرات الخارجيّة يجب أن يحدّد من جديدٍ، أن يكون لها أكثر من فعل اللّفت إلى مجالاتٍ ممكنةٍ، شيءٌ يكاد يناقض حركة الثّقافة كلّها، يناقض إيقاع التّطور التّاريخي[11].

وبحسب هذه الرّؤية الجديدة، يكون الوزن القديم هو اللّاإيقاع، لأنّ البنية العقليّة والنّفسيّة للعربيّ المعاصر، أو لبعضٍ من الأوساط الثقافية المتبدّلة بشكلٍ سريعٍ لسببٍ أو لآخر، قد كسرت الارتباط بين الوزن والإيقاع بالطّريقة التّقليديّة القديمة. وبدل أن يكون الوزن هو ناظم الموسيقا، أصبح عنصراً مفارقاً. فبحسب هذه النّظرة، لا يكون الارتباط بين الوزن النّاجم عن البحور والاستخدام الكمّيّ والنوعيّ المحدّد للتّفعيلات مرتبطٌ حتميّاً بالإيقاع المطلوب، لأنّ للإيقاع جانباً نفسيّاً أيضاً إلى جانب الجانب الفنّيّ المرتبط بالوزن كما مرّ الحديث سابقاً في هذا المقال.

ويخلص أبو ديب إلى أنّه “ليس ثمّة من ريبةٍ في أن الانتظام في الإيقاع النّثريّ قابلٌ للتّحقّق دون موازين الخليل[12].

“إنّ العالم الّذي انتشرت فيه قصيدة النّثر غير العالم الّذي سادت فيه الإيقاعات النّابعة من البنية الإيقاعيّة للشّعر العربيّ”[13] . ولعلّ في تبرير نازك الملائكة لظهور الشّعر الحرّ مصدراً لتبريرٍ مشابهٍ لظهور قصيدة النّثر كامتدادٍ طبيعيٍّ للأنماط الشّعريّة الأخرى، من حيث كونها “تلبيةً لحاجةٍ روحيّةٍ تُبهِظ كيانهم وتناديهم إلى سدّ الفراغ الّذي يحسّونه”[14]. ولربّما كان بعض “شعراء” النّثر يجدون في الالتزام بالبحور ونظام التّفعيلات في شعر التّفعيلة تقييداً للحريّة و”بَطَراً” وزنيّاً أيضاً لا يقلّ تقييداً عن “بَطَر القافية الموحّدة” الّذي انتقدته الملائكة، كمنهجيّةٍ لا تناسب أشواق الشّاعر الحديث[15]. وإذا كانت رائدة شعر التّفعيلة ترى في أنّ القافية الموحَّدة تُلزِم الشّاعر التقليديّ بالتّلكّؤ والابتعاد عن الانسيابيّة والتّعبير الحرّ الصّادق[16]، أفلا يجوز أن يكون أيضاً هذا هو حال كاتب شعر التّفعيلة الّذي يضطرّ إلى الالتزام بوزنٍ معيَّنٍ لا يجوز الخروج عنه؟

ويقدِّم عبّاس رأياً وسطيّاً بين القطبين المتضادّين، الممثَّلين بنازك وأدونيس، فيجد بأنّ شعر التّفعيلة (أو الشّعر الحرّ بحسب نازك) لا يمكن له أن يتوقّف عن التّطوّر ويرتدّ إلى الشّعر القديم، ليكون مجرَّد تجربةٍ مُغنيةٍ له وليس أكثر، فالشِّعر فنٌّ يرتبط بالفنون الأخرى، ويرتبط برسالةٍ تسعى إلى عبور حدودها الثّقافية الضّيِّقة:

…هذا الشّعر الّذي تسمّيه نازك شعراً لم يعد تلبيةً لرغبةٍ في التّجديد الشّكلي- كما بدا- وإنّما أصبح مع الزّمن طريقةً من التّعبير عن نفسيّة الإنسان المعاصر وقضاياه ونزوعاته فهو يتطّور في ذاته كما تطوّرت المداخل لفهم تلك النّفسيّة، والمبادئ المطروحة لحلّ تلك القضايا، والوسائل الجديدة للكشف عن ضروب اللّقاء والصّراع في تلك النزاع، ويجب أن نتوقّع استمراريّةً في هذا التّطور، لا عودةً إلى الوسائل السّابقة، حتّى أمدٍ غير قصير، خصوصاً إذا تصوّرنا ملازمة هذا التّطور لأمرين هاميّن، أوّلهما: أنّ الزّمن سيخلق أجيالاً لا تعرف من صور شعرنا القديم وضروبه لا أصداء يسيرةً تفرضها النّظرة التّاريخية، وإنّما هي أجيالٌ قد تغذّت بهذا الضّرب الجديد من الشّعر… وثانيهما: أنّ الشّعر غير منفصلٍ ولا منعزلٍ عن ضروب التّعبير الأخرى في القصص والمسرح والسّينما والرّسم والموسيقا. وإذا كان التّغير في هذه الضّروب شاملاً، متطوراً… فليس من الطّبيعي أن يستقلّ الشّعر بالارتداد إلى صور التّعبير القديمة[17].

فإن كان الشِّعر معبِّراً فعلاً عن البنية الفكريّة-النفسيّة للفرد والمجتمع، وكان المضمون عنصراً لا يمكن الاستغناء عن أولويّته ورسالته، وكان التّكلّف والتّصنّع معرقلين لانسيابيّة وصدق المفردات والمعاني، وإذا كان شعر التّفعيلة بحسب نازك -وهي رائدته- قد جاء كضرورةٍ تعبيريّةٍ لا غنىً عنها في زمنٍ ما، وكان هو الآخر مقيِّداً ببحورٍ وأوزان لا يمكن الخروج عنها، إن كانت كلّ هذه الأمور مأخوذةً بعين الاعتبار، أفلا يكون الشِّعر حينئذٍ بحاجةٍ إلى تطوُّرٍ تلقائيٍّ آخر يُسمح له وِفقه أن يكون ضمير الفرد والجماعة، مُزيلاً أيضاً مزيداً من المعرقلات، فيكون أكثر إخلاصاً للفحوى وأكثر التزاماً بهويّته الانسيابيّة عبر التّصاوير النّابعة من تجربة الشّاعر كفردٍ وكممثّلٍ للخبر الجمعيّة؟ ألا تكون “قصيدة النّثر”، وفقاً لهذا الفهم، هي الممثِّل الأصدق لهذا النّمط المطلوب من الشِّعريّة بحسب مقاييس شعراء التّفعيلة أنفسهم؟ إذا كان الجواب على هذا السّؤال الأخير “نعم” تكون إذاً قصيدة النّثر شعراً متكاملاً لا انتقاص من شِعريّته، ليس فقط بحسب من يُريد حقّاً أن يعتقد بهذا نتيجة انحيازٍ ما، ولكن أيضاً بحسب “روح” دعوة شعر التّفعيلة عينُهُ.

ومن ناحيةٍ أخرى، فلربّما من الحكمة أن يقف الشّاعر ليسأل عن هدف الشِّعر الّذي يشكِّل منظاره الّذي يرى به العالم الظّاهر ويحدُس من خلاله غائيّة وجوده الذّاتيّ والوجود التّاريخيّ وما وراء التّاريخيّ. وبناءً على هذا عليه أن يتساءل عمّا إذا كان الشِّعر أداةً تستخدمها اللّغة لتجميل ذاتها ولزخرفة مفاهيمها، أم هو محاولةٌ لتجاوز اللّغة ومفاهيمها وأشكالها الاعتياديّة باستخدام مفردات اللّغة نفسها الّتي يُرادُ تجاوز محدوديّاتها وأشكالها وأُطُرِها. إنّ هذا التّساؤل مشروعٌ؛ فهذا الفنّ الّذي يُغرِق أحياناً في تكثيف الصُّوَر، ويتجاوز الاعتياديّ نحو الغرائبيّ وغير المعقول أحياناً أخرى، والّذي يحاول أحياناً أن يفهم الوجود باستخدام تراكيب حُلْميّة أو تمازجاتٍ توظِّف المفردة الّتي تطوّرت في الزّمن مع مفاهيم وصُوَر تخترق المنطق الزّمنيّ للوجود، هذا الفنّ يُشير بإيماءاته إلى ما يتجاوز قوانين اللّغة القائمة في أساسها على المنطق المعتَرَف بها لمعاني الألفاظ والتّراكيب والجُمَل. وإذا كان الشِّعر يرفض أن يستسلم للزَّمَن والمعقول والمنطقيّ فلماذا يجب عليه أن يستسلم لإطار عامّ أو شكلٍ نابع من منظومة تعبيرية معيَّنة؟

إنّ قصيدة النّثر ليست خروجاً في مواضيعها المطروقة عن التّجربة الشِّعريّة العربيّة التّقليديّة؛ فكلّ أنواع الشِّعر تستطيع ربّما التّطرّق إلى الاعتياديّ والمعقول، كما أنّها تستطيع طرق باب الخياليّ والغرائبيّ والحالم والخاطف. ولكنّ قصيدة النّثر تسمح ربّما لكاتبها، كما لقرّائها، ألّا يتوقف في أي مكانٍ، خارجاً من رحلته الفِكرية الحسّيّة ليسأل نفسه عن مدى التزامه بقاعدة وضعها غيره.

إنّ قصيدة النّثر لربّما كانت الأقدر على السّماح للشِّعرية، بما هي التّعبير عن العالم الجوّاني للكاتب، بأن تستلم زمام اللّغة. إنّ القدرة على “ترتيب التّفاعيل في سياق ما[18] قد يسمح بخلق جماليّة إيقاعيّة تصرف النَّظَر عن بعض الضّحالة في المعنى والرِّسالة. ورغم أنّ الحفاظ على العمق ليس مضموناً أبداً في قصيدة النّثر، الّتي يمكن أن تكون مجرَّد كلامٍ عاديّ خالٍ من الفنّ في الشكل والمضمون، إلّا أنّه قد يكون من الجائز القول بأنّ كشف الضّحالة يبقى أكثر سهولةً في الشّعر المنثور، حيث أنّه لا يمكن استخدام كثيرٍ من العناصر الوزنيّة المولِّدة للإيقاعات المُطرِبة الّتي قد تخطف انتباه القارئ أو السّامع، وبالتّالي يصير لِزاماً على الشّاعر أن يبقى مُخلِصاً لعفويّته وعمق معرفته وقوّة إحساسه، كون هذه ربما تشكِّل العناصر الأقوى الّتي يصعب تزييفها في قصيدة النّثر. وبالتّالي تكون قصيدة النّثر، بهذا المفهوم للشِّعريّة، أكثر قدرةً على تمثيل الشِّعر العربيّ والشِّعر بشكلٍ عام.ٍ

[1] رمضان حينوني، “الإيقاع في قصيدة النّثر: شعر الماغوط أنموذجاً،” مجلة الموقف الأدبي، العدد 516، نيسان 2014، 95.

[2] نفس المرجع السّابق، 96.

[3] نفس المرجع السّابق، 97.

[4] نفس المرجع السّابق، 98.

[5] نفس المرجع السّابق، 99.

[6] نفس المرجع السّابق، 101.

[7] هذه القصيدة من تأليف كاتب هذه الورقة.

[8] Adonis, An Introduction to Arab Poetics, translated by Catherine Cobham (London: AlSaqi Books, 2003), 79-80.

[9] الملائكة، 192. أيضاً انظر الرّافعي، أوراق الورد (بيروت: دار الكتاب العربي، 2005)، 13.

[10] الملائكة، 194.

[11] كمال أبو ديب، “في البنية الإيقاعيّة للشّعر العربيّ وفي اللّابنية: قصيدة النّثر وجمالياّت الخروج والانقطاع،” موقع جهة الشّعر. تم الوصول إليها بتاريخ 7 نيسان، 2015.

[12] نفس المرجع السّابق.

[13] نفس المرجع السّابق.

[14] الملائكة، 41-42.

[15] نفس المرجع السّابق، 43.

[16] نفس المرجع السّابق، 44.

[17] عباس، 26.

[18] نفس المرجع السّابق.

دور الاغتراب في جودة النص الشعري

دور الاغتراب في جودة النص الشعري

أ. رمضـــــــان حينوني

المركز الجامعي لتامنغست

 

ملخص:

يحاول هذا المقال أن يتناول قضية ثنائية العلاقة، تتعلق بالاغتراب وعلاقته بالجمال التعبيري في النص الشعري، فيبحث في اغتراب الشاعر وما يتعلق به من قضايا الانتماء والالتزام، اللذين يفرضان على الشاعر أمرا واقعا يشكل الضغط إحدى أهم سماته، كما يتناول أمكانية ربط الشعور بالاغتراب بجودة الشعر، من منطلق الاعتقاد أن المعاناة تدفع إلى التميز، تصديقا لقول العربي: (الأزمة تلد الهمة).

وبحكم كون الاغتراب ظاهرة قديمة ومتجذرة في التفكير الإنساني، فقد حاولت أن أستعين بأمثلة متنوعة من تاريخنا القديم والحديث بغية الوقوف على العوامل التي جعلت التعبير الشعري عند العرب يكسر قيود التبعية المطلقة للجماعة،في مراحل كثيرة من تاريخهم، ويتمرد على الواقع القائم بغض النظر عن النظم التي تحكمه وتسيره، كل ذلك بهدف نشدان الحرية في التعبير، والانطلاق إلى عوالم الإبداع الفسيحة. 

تمهيد:

مذ ربط الإنسان القديم الشعر بالجن، كان في حقيقة الأمر يعبر عن اختلاف الشاعر عن غيره من البشر، ذلك الاختلاف الذي يضعه في عالم معنوي قائم بذاته ينجم عنه نظم كلام يحتاج إلى معرفة وإدراك وخبرة لفك شفراته وفهم أبعاده، فبدا الشاعر وكأنه إنسان فوق البشر من حيث قوة البيان والقدرة على تأليف المعاني والصور تفوق تلك التي يملكها عامة الناس، ومن ثم نظر للشاعر على أنه إنسان من طينة مميزة، ونظر هو إلى الآخرين على أنهم لا يرتفعون دائما إلى مستوى فهم ما يريد.

ويشترك الشاعر -إلى حدّ ما- مع المثقف النخبوي في هذه الوضعية، من حيث علاقته بالآخرين، وإن كان الشاعر مطالبا بالإبداع أكثر من المثقف، وإنتاجه ليس واعيا دائما أو ليس مرتبطا بعالم الحقيقة في كل حال، ومن هنا كان الأديب أكثر قدرة على التأثر بأحداث المجتمع وتقلباته، وأكثر قدرة على مواجهة ما تأتي به تلك التقلبات من فوائد أو مضار، مع اختلاف في درجة ذلك بين أديب وآخر.

والأديب إذ ينطلق من ذاته في رؤيته للعالم المحيط به، فإن عوامل كثيرة تتدخل في تشكيل تلك الرؤية ومستقبلها، من ذلك تكوينه النفسي والثقافي، والتجربة الحياتية التي تنميها جملة من العوامل الاجتماعية والدينية والسياسية، فتبلورها في مجموعة سلوكات ومبادئ تترجم إبداعا، يخلص فيه تارة للجماعة على حساب ذاته، وتارة يعطي ذاته الأولوية وإن حدث الصدام بينه وبين الجماعة التي ينتمي إليها، والتي تريده صوتها وصورتها في مقابل الآخرين، دون أن تتفهم خصوصياته وأبعاد تفكيره التي مهما تكن علاقته بالجماعة، فإن لها تميزها واستقلاليتها اللذين يرسمان اتجاهها في التعبير، ورؤيتها للأمور المتعلقة بالإنسان ومحيطه الاجتماعي.

والأدباء كغيرهم من النماذج البشرية لا يتعاملون مع الواقع المفروض أو الانتماء القسري بدرجات متساوية، ذلك أن” بعضهم يستكين إلى تلك الظروف والانتماءات، وبعضهم يرى في جوانب منها ما يعوق تقدّمه، فيبحث عن الخلاص بتصور الحلّ، وإقرانه بالعمل اللازم لإزاحة ما يعوق التقدم، وفي أثناء ذلك يحدث الجدل، فيكون حاداً بالصراع أو هادئاً بالحوار، وفي كلتا الحالتين تظهر إرادة الإنسان القادر على التدخل في سير الظروف، مسلّحاً بالمعرفة البسيطة أو العميقة للقوانين التي تحكم الطبيعة والوجود الإنساني معاً”([1]).

وفي كل حال من هذه الأحوال يسعى الأديب إلى تبرير اتجاهه، والدفاع عن موقفه في وجه الانتقادات التي يتعرض إليها من ذوي الاتجاهات الأخرى.

الأديب ومسألة الانتماء:  

من هنا تطرح قضية الانتماء وما يرتبط به من التزام بقضايا المجتمع، عند حديثنا عن موقف الأدباء مما يحدث في محيطهم العام متعدد الأوجه، ذلك الموقف الذي يتعرض لكثير من الضغوط الخارجة عن نطاق الذات، فيحاول الأديب التكيف مع الواقع آخذا بعين الاعتبار منطق الربح والخسارة، سواء على المستوى الشخصي أو المستوى الاجتماعي. غير أن المسألة غاية في الصعوبة خاصة في أزمنة الأزمات التي تعصف بالمجتمع، أين يجد نفسه بين مطرقة مبادئه التي تربى عليها أو التي اكتسبها عبر ثقافة تراكمية، وبين سندان التوجهات السياسية والاجتماعية التي تدعوه إلى اتخاذ موقف معين، أو أكثر من ذلك تدعوه إلى الدفاع عن وجهات نظر السلطة التي يحتمي بها، سواء كانت سياسية أو دينية أو اجتماعية، حتى وإن كانت درجة الاقتناع بالمهمة المنوطة به أحيانا ضعيفة.

غير أن هذا الانتماء لا ينتفي بالضرورة إذا عارض الفرد رغبات الجماعة أو توجهاتها، بل هو قابل لأن يكون انتماء شكليا في مقابل الانتماء الجوهري الذي يرتقي إلى مرتبة الولاء، كما يرى الدكتور فرج عبد القادر طه، إذ إن ” الفرد قد يكون عضواً في جماعة، ومحسوباً عليها إلاّ أنه لا يرتضي معاييرها، ولا يتوحد بها، ولا يشاركها ميولها واهتماماتها، فهو ينتمي إليها شكلاً، وليس قلباً، وفي هذه الحالة يصبح منتمياً إلى هذه الجماعة بينما يكون ولاؤه… لجماعة أخرى أو لزعيم آخر أو لمبدأ مغاير للجماعة المنتمي إليها”([2]). ولا يصل الأمر إلى هذه الدرجة عادة إلا حينما يتعرض الأديب إلى الاضطهاد الذي لا يلجأ فيه فقط ” إلى أساليب العنف الظاهر بل إلى أساليب دقيقة جدا تهدف إلى عزل الكاتب وتهديم شخصيته وإسكاته”([3])

أما الحلقة الوسط بين الولاء والانتماء الشكلي فقد يكون ما يمكن تسميته بالولاء الواعي، ذلك الذي تتسع فيه دائرة الالتزام ” بحيث تترك للكاتب الحق والحرية في تحديد قضايا المجتمع المهمة من زاويته الخاصة”([4])، حتى وإن كانت متفقة أحيانا وتوجهات السلطة ومؤسساتها؛ ذلك أن المثقف بوجه عام- ومهما كانت علاقته بالسلطة – ليس مسخرا ليكون معارضا أبديا لها ولا بوقا يوصل صوتها، فقد يلتقي طرحه مع طرحها حينا من الدهر، ولكنه لا يستمر على ذلك طويلا نتيجة للتغيرات والتقلبات التي تعتري السلطة، ويمكن اعتبار مثل هذه العلاقة بين هذين الطرفين امتحانا حاسما لمدى استقلالية المثقف ونزاهة توجهه.

والاضطراب في الانتماء ليس سمة سلبية بالضرورة؛ بل قد يعد بحثا عن الحرية أو التحرر من المعيقات التي تحول دون اطمئنان الفرد إلى الوسط الذي يعيش فيه، ونذهب في هذا مع الدكتور فاروق أحمد اسليم الذي يرى” أن تنوع الانتماء هو نتاج جدل الإنسان، وهو يبحث عن الوسائل التي ترقى به نحو التحرر، والانفلات من الظروف التي تعوق تطوره”([5])، ويدل ذلك على الدور الذي يلعبه وعي الفرد، والمثقف على وجه الخصوص، في توجيه الانتماء بأشكاله المتعددة قبليا أو سياسيا أو فكريا.

أما خارج هذه الأشكال من الانتماءات، فنجد الأديب اللامنتمي الذي لا يجد طريقا إلى لعب دور حقيقي له في الحياة العامة يعبر عن إرادته، ويعبر عن وجوده ككائن مستقل، وخصوصا في العالم الصناعي الذي شيأ الإنسان وحوّله إلى مجرّد آلة، فاغترب عن نفسه وعن مجتمعه، وأصبح كبطل رواية هنري باربوس (الجحيم) لا يجد” طريقا هنالك إلى الخارج أو إلى ما حول أو إلى الداخل “.([6])

ورغم أن الصورة التي رسمها كولن ولسن للإنسان اللامنتمي لا تنطبق بالضرورة على كل النماذج اللامنتمية، لاختلاف البيئات والمنطلقات الفكرية، إلا أنها تعبر من زاوية معينة عن طبيعة هذا النموذج الذي ” يدرك ما تنهض به الحياة الإنسانية من أساس واه، والذي يشعر أن الاضطراب والفوضوية هما أعمق تجذرا من النظام الذي يؤمن به قومه”([7]) وهو بالتالي يرفض أن يكون في منظومة اجتماعية لا يرى أنها تحقق أناه الحقيقية، فهو دائم البحث عن ذاته وعالمه، ولهذا يعيش شقاء يقربه في نظر الآخرين إلى المجنون، مثل ما حدث ل(فان كوخ) الذي انتهى به المطاف إلى الانتحار.

وفي كل هذه الحالات المرصودة المتعلقة بالانتماء واللاانتماء، لا نجد الفرد في كامل الاطمئنان إلى علاقته مع الآخرين، فمهما تنازل عن بعض قيمه ليتأقلم فهو يظل مدركا لخلل نسبي تتفاوت درجته في تلك العلاقة، وذلك أمر طبيعي إذا علمنا أن الذات لا ترتبط بالقوانين والضوابط التي نجدها في المجتمع، وعليه فإن الحرية التي تريدها الذات لا بد أن تواجهها معوقات يفرضها النظام المسير للجماعة الإنسانية، فينجم عن ذلك عدم التطابق بين الطرفين يتمظهر في شكل ما من أشكال التعبير الانتقادي لدى الأدباء، كما لدى غيرهم ممن يستخدمون المنابر التعبيرية المختلفة.

الشاعر العربي بين الولاء والتمرد:

وبناء على ما سبق، نجد عبر التاريخ العربي والإنساني نماذج متباينة لشعراء اتخذوا مواقف معينة مما يجري في محيطهم المضطرب تحت وطأة الأعراف والقوانين، أو تحت وقع القلاقل والحروب والفتن وغيرها، مع ما يترتب عن ذلك من ثمن يدفعه الأديب، أو مغنم يحظى به  مقابل ذلك، بصرف النظر عما إذا كان المغرم والمغنم مقصودين أم لا.

لنأخذ نموذجين واضحين من العصر الجاهلي على سبيل المثال، نموذج المخلصين للقبيلة كدريد بن الصمة، وغيره، والشعراء الصعاليك المتمردين عليها، والخارج عن ولائها إلى قوم سواها؛ فدريد شاعر القبيلة بامتياز، وبيته الشهير الوارد في مرثيته لأخيه يستشهد به في هذا المجال إذ يقول:

  وما أنا إلا من غزية إن غوت    غويت وإن ترشد غزية أرشد

وهو تلخيص لمعنى أعم عبرت عنه الأبيات السابقة له، فقد أشار على قومه برأي بخصوص الغزاة القادمين ك(جراد يباري وجه الريح)، ولكنهم رأوا غير ما رأى، أو أنهم أدركوا صواب رأيه متأخرين، ورغم عصيانهم اعتبر نفسه منهم وأنه غير مهتد.([8])

والملاحظ أن أغلب الشعراء الفرسان الذين كانوا عماد قبائلهم عرفوا بهذا الولاء، وقد تكون الثقة التي حظوا بها، والاحترام الذي يجدونه من أفرادها، والمسؤولية التي يشعرون أنها ملقاة على عواتقهم، كل ذلك شجعهم على إخفاء أناهم أو إذابتها في الجماعة، تحت عنوان كبير هو التضحية في سبيل الجماعة. والتضحية في ذاتها لا تكون إلا بالتنازل عن بعض ما يريده الشاعر، وإن كان نفيسا غاليا مثل النفس ذاتها. وقد يكون نظام القبيلة الصارم والمطالب بتلك التضحية في مقابل الحماية والمكانة هو مصدر إجبار على ذلك الولاء، فالولاء عندئد لا يعدو أن يكون إذعانا وخضوعا لقوة قاهرة تملك وسائل ردعها لكل مخالف أو رافض لنظمها، ممثلا في الخلع وهو” أعلى درجات النفي الفردي، حفاظا على المصلحة العليا للقبيلة والتزاماتها الأخلاقية ضمن توازن القوة في المجتمع القبلي”.([9])

غير أنه، وفي ظل العصبية القبلية– في حال الشاعر الجاهلي- وما ينجم عنها من مظاهر الاضطراب والقلق، قد يرتقى الوعي الإنساني لدى الشاعر ليكون عامل توازن في هذا الانتماء،” فالجدل بين العصبية إلى الدم والوعي الفردي الذي يحمل مضمونا أخلاقيا، جعل ذات الشاعر الجاهلي أكثر تجذرا في إنسانيتها، وأشد حساسية في نشدانها لمثل أعلى، يخلق لديها نوعا من التوازن في عالم كاد أن يكون مستغلقا بسبب الصراعات عن الحمى”.([10])

أما النموذج الثاني فتمثله تجربة الشعراء الصعاليك الحاضرة في الأذهان؛ بفئاتهم المختلفة([11]) التي خرجت لا شك عن المبدأ الذي رسخته القبيلة، فأعلنت رفضها الخضوع  الذي يؤدي إلى ذوبان الفرد في الجماعة، وشقت لنفسها طريقا آخر فكريا واجتماعيا، أساسه النقمة والثورة على الأغنياء والأشحاء الذين تجمعت في أيديهم الثروة، في مقابل الفقر الذي يمس شرائح واسعة من المجتمع.

وإذا كانت دراسات كثيرة تذهب إلى أن  ظاهرة الصعلكة ظاهرة اقتصادية، فإنه ليس من الصواب حصرها في الفوارق الطبقية بين الأشراف والعبيد في القبيلة، بل إنها نتاج تأمل فكري أوصل فئة من أفراد القبيلة إلى الخروج عن الإطار المسطر لها، وخصوصا عند ضحايا الخلع وهم من الطبقة العليا. وبالتالي فإن مسألة التحرر من قيود الآخر قد تكون سببا أكبر في الميل إلى هذا السلوك، فالقوانين التي كانت تحكم القبيلة عرفية صاغها الأقوى وصاحب المصالح، حتى وإن كانت في بعض جوانبها إيجابية، ولم يكن الضعيف في كل حال قادرا على الصبر عليها أو ليرضى بأن تكون دستور حياته، لهذا وجدنا الصعاليك بالذات يتخذون لأنفسهم طرقا لتحدى تلك الظروف الصعبة، من أجل البقاء أولا ومن أجل محاربة الواقع المفروض ومحاولة تغييره.

ومن هنا كانت ظاهرة الصعلكة حركة تمرد وثورة اتخذت في بعض حالاتها طابعا إصلاحيا كما هي عند عروة بن الورد وغيره، لكن الذي يهمنا من ذلك هو أن الشاعر الصعلوك لم ينزو في عالمه الخاص يمارس مهنته بصمت بل جسد لنا أفعاله ورؤاه شعرا، وقدم لنا موقفه من القبيلة أو المجتمع المصغر الذي خرج عنه وحاربه، فتكشفت لنا كثير من الإشارت الدالة على اغتراب الصعاليك ومعاناتهم والتبريرات التي ساقوها للتغطية على السطو الذي كان حرفتهم الرئيسة لكسب قوتهم، والحفاظ على مجتمعهم الجديد الذي شكلوه بديلا عن القبيلة التي رفضتهم فرفضوها، وطردتهم فحاربوها.

وربما كان الشنفرى واحدا من الصعاليك الذين قدموا لنا رؤيتهم الواضحة تجاه القوم، ففي لاميته([12]) الشهيرة يذهب الشاعر إلى حد اتخاذ الحيوان قوما بدلا من قومه الذين هم بفراقهم، فلا حاجة له بهم طالما أنهم مصدر الأذى والكراهية، أما عالم الوحش ففيه الأمن وحفظ الأسرار:

أَقِيمُوا بَنِي أُمِّي صُدُورَ  مَطِيِّكُمْ      *** فَإنِّي  إلى قَوْمٍ سِوَاكُمْ  لأَمْيَــــــلُ

وفي الأَرْضِ مَنْأَى لِلْكَرِيمِ  عَنِ  الأَذَى *** وَفِيهَا  لِمَنْ  خَافَ  القِلَى  مُتَعَزَّلُ

لَعَمْرُكَ مَا بِالأَرْضِ ضِيقٌ على  امْرِىءٍ *** سَرَى رَاغِبَاً أَوْ رَاهِبَاً وَهْوَ يَعْقِلُ

وَلِي دُونَكُمْ  أَهْلُون : سِيدٌ  عَمَلَّـــــسٌ *** وَأَرْقَطُ زُهْلُولٌ  وَعَرْفَاءُ  جَيْـألُ

هُمُ الأَهْلُ  لا مُسْتَودَعُ  السِّرِّ  ذَائِــعٌ *** لَدَيْهِمْ وَلاَ  الجَانِي  بِمَا جَرَّ  يُخْذَلُ

وعلى الرغم من اختلاف الروايات حول تحول الشنفرى إلى الصعلكة، فإن الأبيات السابقة، بقدر ما تحمل من الصدق في العاطفة، والقوة في البيان، فإنها ترجمان لرؤية هذه الفئة من العرب لأقوامها، عندما تفتقد فيها الأمان والاحترام وحرية التصرف، فتكون الصحراء بقساوتها ووحشها ووحشتها مفرا مقبولا وملاذا محمودا.

ومع امتداد الزمن لم تتغير الصورة في جوهرها، بل تغيرت في جزئياتها، فقد ظل الأدباء في كل العصور المعروفة يمثلون النموذجين السابقين، ونحن نسمع اليوم عن شعراء المناسبات وشعراء الالتزام وشعراء البلاط وشعراء التمرد وغيرها من التسميات التي تدور كلها في بوثقة علاقة الشاعر بالمجتمع الذي ينتمي إليه، غير أن التوتر بات يلعب فيها الدور الكبير في العصور المتأخرة، لأسباب تاريخية تتعلق بتطور المجتمع العربي في علاقاته مع محيطه، وبابعاد مختلفة سياسية واقتصادية واجتماعية.

الاغتراب وجودة الشعر:  

عادة ما يشار بالبنان إلى الشعراء المتوترين نفسيا أو اجتماعيا على أنهم جيدو الشعر أو مبدعون أو متميزون، وهو الأمر الذي يدفع بعض الدارسين إلى ربط جودة الشعر بمعاناة الشاعر، نفسيا أو اجتماعيا أو سياسيا، بل إن من الشّعراء من يعبر عن ذلك صراحة، ويؤكد على أن القلق والتوتر وجو المشكلة عموما يعد دافعا أساسيا إلى التعبير المميز بالقوة والإبداع، وإن كنا نستبعد أن نجد شاعرا هادئا على امتداد تجربته الشعرية، حتى الذين يوصفون عادة بالمنتفعين والتكسبيين والموالين لذوي النعم، فلا تخلو حياتهم من لحظات توتر وربما ثورة على أوضاع معينة.

ويبلغ الأمر ذروة وضوحه حين يتعلق بأحد أشكال الاضطهاد؛ ونذهب في ذلك مع حليم بركات حين يرى أن” الاضطهاد العنيف المباشر في الدول المحافظة التقليدية لا يقضي على الأدب، على العكس، يبدو أنه عامل مهم في نموه”([13])، ويستشهد على ذلك بالأدب الروسي في الحقبة القيصرية، والأدب الفرنسي في فترة ما قبل الثورة، والثورة الشعرية التي انطلقت من العراق إبان فترة الخمسينات، وقبل هذه التجارب نجد مثيلات لها في مختلف العصور والحضارات، تأكد من خلالها أن العنف يولد العنف المضاد، حتى وإن كان على شكل كتابة فنية تجد أثرها الواضح في مجريات الأحداث، وقد تصنع للأمة تاريخا جديدا.

وبحكم حساسية الشاعر، وربما حساسيته المفرطة أحيانا، فإنه من غير المعقول أن يتغاضى عن أحداث أو مجريات معينة تسير في غير الاتجاه الذي يرتضيه الناس في لحظة تاريخية معينة، ولقد لاحظ قراء العربية أمثلة ونماذج تثبت التفاوت بين الشعراء في درجة الانفعال تجاه الحدث، وينجم عنه اختلاف في درجة جودة الشعر المعبر عنه، ويكننا أن نجول في ساحة الأدب العربي الفسيحة عبر العصور لندرك ذلك؛ فلقد أنتج الصعاليك نصوصا قوية في وصف الغربة، وفي تبرير الغزو والسطو، وفي حميمية العلاقة بين الصعاليك فيما بينهم في مجتمعهم الجديد، بل وحتى في علاقاتهم مع الحيوانات في القفار والبراري، يدفعهم إلى ذلك بعدهم عن منابتهم وأهليهم، كما أجادوا في وصف الحنين إليها كلما غدر الزمان بهم كما حدث لمالك بن الريب الذي تركت قصيدته في رثاء نفسه أثرا طيبا عند القراء، ومطلعها:

ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة *** بوادي الغضا أزجي القلاص النواجيا

فليت الغضا لم يقطع الركب عرضه *** وليت الغضا ماشى الركاب لياليا

لقد كان في أهل الغضا لو دنا الغضا *** مزار ولكن الغضا ليس دانيا

لقد بناها الشاعر على تصور نهايته وكيف سيكون مآله بعد لفظ أنفاسه، ولا شك أن مالكا خالف كثيرا من الراثين في ذلك، الذين اعتادوا على رثاء غيرهم، ونحن نراه يكرر الغضا خمس مرات في أبياته الثلاثة السابقة تأكيدا على الحسرة التي يجدها في الموت بعيدا عن أهله الذين تعارضت مصالحه ومصالحهم فغادرهم وتمرد على قوانينهم، ثم نراه بعد هذه الأبيات يصور حال صاحبيه وهما يتركانه وحيدا بعد مراسيم الدفن، دونما تأكد بأنهما سيبكيانه بعد ذلك.

كما أجاد العاشقون في بوادي الحجاز سبك أشعارهم بعد أن وقعوا ضحايا القوانين التي كانت تحرمهم من الزواج بمن يذكرون في غزلهم، ولعبت غربة المطاردة والبعد عن الحبيب دورا هاما في صياغة شعر يتقاطر شكوى وتبرما وإخلاصا، وسعى أصحابه إلى توظيف كل عوامل التأثير في السامع، إفراغا لشحنات نفسية لاذعة، وأملا في التعاطف الذي يجلب السلوى والعزاء.

وهذا الذي حدث مع المتنبي والمعري، وحدث للبارودي وشوقي؛ فحادثة دنشواي التي وقعت عام 1906 دليل على ذلك، فقد هزت الحادثة حافظ إبراهيم فكتب عنها قصيدته المشهورة التي يقول في مطلعها:

أيها القائمون بالأمر فينا *** هل نسيتم ولاءنا والودادا؟
خفّضوا جيشكم وناموا هنيئاً *** وابتغوا صيدكم وجوبوا البلادا
وإذا أعوزتكم ذاتُ طوق *** بين تلك الربا فصيدوا العبادا
إنما نحن والحمام سواء ***  لم تغادر أطواقنا الأجيادا

أما أحمد شوقي الذي كان شاعر القصر آنذاك فلم يقل عنها شعرا إلا بعد عودة ذكراها في السنة الموالية، في قصيدته التي مطلعها:

يا دنشواي على رباك سلام *** ذهبت بأنس ربوعك الأيام
كيف الأرامل فيك بعد رجالها *** وبأي حال أصبح الأيتام

وليس الغرض المفاضلة بين القصيدتين، ولكننا نرمي إلى تلمس حجم الانفعال بالحدث لدى حافظ، وانعكاسه على مستوى الأداء الشعري الذي ميزه الإحكام والدقة في وصف مشاعر الإنسان المصري الواقع تحت الاحتلال الغاشم، والمشتكي من الظلم والقهر والإفراط في القوة ضد أهالي قرية مسالمة. ولا شك أن سرعة التحرك عند حافظ، وطراوة الإحساس بالغيظ لديه ساهمتا في إخراج هذا العمل على الصيغة التي رفعت رأس الشاعر عاليا في نظر قرائه، يزكيها رأي طه حسين في الشاعرين، إذ يقول إن شوقيا ” لم يحسن ما أحسن حافظ من تصوير نفس الشعب وآلامه وآماله، ولم يتقن ما أتقن حافظ من تصوير الألم وتصوير هذا الإحساس وشكوى الزمان”.([14])

إن مرارة الألم كما نشوة الفرح عاملان يقويان الملكة الشعرية وينشطانها أملا في ارتفاع المنتوج الشعري جمالا وقيمة، قد لا يكون ذلك مقصودا، ولكن العلاقة بين الانفعال والعطاء لا ينكرها عاقل، وكأنما الأول أزمة والثاني مخرج منها، وبقدر ما تكون الأزمة ضاغطة وخانقة يكون المخرج حاسما ومنقذا. والاغتراب بوصفه أزمة كبرى لها تأثيراتها على الشاعر، يعد من دواعي الإنتاج الإبداعي الشائعة، ومن أهم بواعث الحرص على جودة النص.

أما شعراء القصيدة المعاصرة فقد عاشوا عصرا تحالفت عليهم فيه الأزمات السياسية وتعقيدات العصر وماديته، فكان لذلك كله عظيم الأثر في تشكيل تجربة شعرية ناضجة تكون في مستوى الاستجابة لدعوات التجديد الملحة، ولضرورة التميز الذي يسعى إليه الشاعر، فتتحدد على أساسه مكانة الشاعر الأدبية، فقد شقت الأسماء الكبيرة طريقها إلى المجد الأدبي عبر المنافي والسجون والغربة، وعبر الصراع الذي فرض عليهم من مناوئيهم السياسيين خاصة، الذين يملكون قوة القهر والفعل المؤذي ماديا ومعنويا، سواء تعلق الأمر بالاحتلال في أشكاله المختلفة، أو بابن البلد الذي نظر إليه دائما على أنه قد يكون أشد من الأجنبي بطشا تجسيدا للبيت العربي الذي يقول:

وظلم ذوي القربى أشد مضاضة *** على المرء من وقع الحسام المهند

ولقد وجدنا البردوني في اليمن، يجسد معاناة العمى الذي يمنعه رؤية النور والجمال، وغربة الوطن في نفسه تمنعه الافتخار، طالما أنه وطن الجياع والبائسين، فيه يشقى الناس  بمآسيهم الذاتية، ولا يجدون ما حولهم يبعث على التفاؤل، فيقول معبرا عن غربته بين قومه:

وكأنّي تحت الدياجير قبر *** جائع في جوانح الصمت عاري

وأنا وحدي الغريب وأهلي *** عن يميني و إخوتي عن يساري

وأنا في دمي أسير، و في أر *** ضي شريد مقيــّد الأفكــــــار

وجريح الإبا قتيل الأماني *** وغريب في أمّتي وديـــــــــاري

كلّ شيء حولي عليّ غضوب *** ناقم من دمي على غير ثار

وكذلك فجر محمود درويش في فلسطين طاقة الحرف العربي تعبيرا عن الظلم والبطش الصهيوني ضد العرب، وأحمد مطر نشر تهكمه وهجاءه المر على أسلاك الغربة، ليشهدا على غرابة عالم عربي يسير في اتجاه معاكس للمستقبل، ومعاكس لما يحلم به الإنسان العربي من الرغبة في الانعتاق والتحرر والمساهمة الفعالة في النهوض الفعلي للمجتمع والرقي به إلى مصاف المجتمعات المحترمة، وأمثالهم كثيرون فرضت عليهم الظروف أن يخرجوا واعين عن الاستكانة والخضوع حتى ولو كان ذلك على حساب استقرارهم الذاتي والاجتماعي.

إن النص الأدبي بوصفه عملا فنيا يستفيد إذن من الأزمات والمآسي وأشكال الاغتراب المختلفة، بل إن الجمال في الأدب ” يتولد من القدرة على تصوير المأساة “([15])، فيكون الاغتراب عندئذ ” الموضوع الرئيسي للعمل الفني “.([16])

وقد عبر كثير من المبدعين عن الدور الأساس الذي يلعبه الاضطراب في إنتاج النصوص الجيدة، ذلك الاضطراب الذي يتمظهر في أشكال كثيرة لكنها موحدة الجوهر، فممدوح عدوان يرى أن” إن الفنان إذ يكتشف صفاءه، يكتشف عكر العالم، وتصطدم صلابة صفائه بصلابة العالم.. وهذا الاصطدام يولد الشرارة المضيئة للعالم.. إن الفن ينبع دائما من هذا الصدام، من الرغبة في أن لا يفقد الإنسان صفاءه.. ويصبح هذا الهمّ الذاتي جذرا لهموم الناس جميعا.”([17])

الشهادة والاستشهاد: المفهوم والواقع العملي في العصر الحديث 

الشهادة والاستشهاد: المفهوم والواقع العملي في العصر الحديث     

 د. رمضان حينوني 

 

المفهوم اللغوي :

       يشكل الحضور أهم المعاني التي تأتي من الجدر(ش.هـ.د) في القواميس العربية قديمها وحديثها؛ فقد جاء في معجم(مقاييس اللغة ) لابن فارس:”الشين والهاء والدال أصلٌ يدلُّ على حضور وعلم وإعلام، لا يخرُج شيءٌ من فروعه عما ذكرناه، مِنْ ذَلِكَ الشَّهَادَةُ، يَجْمَعُ الْأُصُولَ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا مِنَ الْحُضُورِ، وَالْعِلْمِ، وَالْإِعْلَامِ. يُقَالُ شَهِدَ يَشْهَدُ شَهَادَةً. وَالْمَشْهَدُ: مَحْضَرُ النَّاسِ… وَالشَّهِيدُ: الْقَتِيلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، قَالَ قَوْمٌ: سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّ مَلَائِكَةَ الرَّحْمَةِ تَشْهَدُهُ، أَيْ تَحْضُرُهُ “[1]

وفي تاج العروس نقرأ:” (شَهِدَه كسَمِعَه شُهُوداً) أَي (حَضَره، فَهُوَ شاهِدٌ، ج شُهودٌ) ، أَي حُضُورٌ، وَهُوَ فِي الأَصل مصدر، (وشُهَّدٌ) أَيضاً، مثل رَاكِعٍ ورُكَّعٍ.(و) يُقَال: (شَهِدَ لزيد بِكَذَا شَهَادةً) ، أَي (أَدَّى مَا عِندَهُ من الشَّهَادةِ، فَهُوَ شاهِدٌ ج شَهْدٌ، بِالْفَتْح… (واستَشْهَدَهُ: سأَله الشَّهَادةَ) ، وَمِنْه لَا أَسْتَشْهِدُه كاذِباً. وَفِي الْقُرْآن: {وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ} (الْبَقَرَة: 282) واستشهدتُ فُلاناً على فلانٍ: سأَلْته إِقامَةَ شَهادةٍ احتَمَلها.)[2]

المفهوم الاصطلاحي :

لقد وردت كلمة الشهادة بمعناها الاصطلاحي في كثير من الآيات الكريمة ، مثل قوله تعالى(وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقا) (النساء: 69 ). وقد جاء في تفسير المنار أن الشهادة هنا ليست القتل في حرب الكفار، بل” إِنَّ الشَّهَادَةَ الَّتِي تَقُومُ بِهَا حُجَّةُ أَهْلِ الْحَقِّ عَلَى أَهْلِ الْبَاطِلِ تَكُونُ بِالْقَوْلِ وَالْعَمَلِ، وَالْأَخْلَاقِ، وَالْأَحْوَالِ، فَالشُّهَدَاءُ هُمْ حُجَّةُ اللهِ تَعَالَى عَلَى الْمُبْطِلِينَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ بِحُسْنِ سِيرَتِهِمْ.” [3] وقوله سبحانه:( وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ )(الزمر: 69 ). قال ابن عباس: يعني الذين يشهدون للرسل بتبليغ الرسالة ، وهم أمة محمد صلى الله عليه وسلم. وقال عطاء : يعني الحفظة ، يدل عليه قوله تعالى : ” وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد [4]“، وقوله تعالى: (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِندَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ )(الحديد: 19 ) يقول ابن عربي في أحكام القرآن إن لفظ الشهداء في الآية فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنهم النبيون، الثاني أنهم المؤمنون، الثالث : أنهم الشهداء في شبيل الله..”[5]

ونتيجة لكثرة الحروب التي خاضها المسلمون منذ هجرة النبي صلى الله عليه وسلم، إما لفتح الأمصار ونشر الدين وإما دفاعا عن الأوطان ضد الغزو الأجنبي، فإن أكثر المعاني تداولا بين العامة للفظة الشهادة نجد القتل في سبيل الله. وهي بديل لفظتي القتل والموت في حق أولئك الدين يقدمون أرواحهم فداء دينهم وأوطانهم وأعراضهم، مصداقا لقوله تعالى: (وَلاَ تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لاَ تَشْعُرُونَ) (البقرة/154)، وجاء في آية أخرى: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ…)(التوبة/111). فتعظيما للشهداء ولكونهم يحيون عند الله تطلق عليهم اللفظة تمييزا لهم ومدحا.

الشهيد في الإسلام:

        لا يختلف المسلمون في رفعة المكانة التي أعدها الله للشهداء في سبيله؛ فالباحث في كتاب الله يجد العديد من الآيات المبينة لفضلهم مثل قوله تعالى:(إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ المُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقاًّ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الفَوْزُ العَظِيمُ )(التوبة: 111 ). وقوله:( وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُون فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ  يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ المُؤْمِنِينَ )(آل عمران: 169-171 ).

أما أحاديث النبي الكريم –صلى الله عليه وسلم – فكثيرة أيضا تصب فيما دلت عليه الآيات الكريمة، ومن ذلك قوله صلى الله عليه و سلم:(القتلى ثلاثة رجال، رجل مؤمن جاهد بنفسه وماله في سبيل الله حتى إذا لقي العدو قاتلهم حتى يقتل، ذلك الشهيد الممتحن، في خيمة الله تحت عرشه، لا يفضله النبيون إلا بدرجة النبوة. ورجل مؤمن قرف على نفسه من الذنوب والخطايا جاهد بنفسه وماله في سبيل الله، حتى إذا لقي العدو قاتل حتى يقتل، فتلك مصمصة مسحت ذنوبه وخطاياه، إن السيف محاء للخطايا، وأدخل من أي أبواب الجنة شاء، فإن لها ثمانية أبواب، ولجهنم سبعة أبواب وبعضه أسفل بعض. ورجل منافق جاهد بنفسه وماله في سبيل الله، حتى إذا لقي العدو قاتل حتى يقتل، فذلك في النار، إن السيف لا يمحو النفاق.)

وقال صلى الله عليه وسلم أيضا:(ما من نفس تموت لها عند الله خير يسرها أن ترجع إلى الدنيا ولها الدنيا وما فيها إلا الشهيد، لما يرى من فضل للشهادة، فيتمنى أن يرجع فيقتل مرة أخرى). وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:( ما من أحد يدخل الجنة يحب أن يرجع إلى الدنيا وأن له ما على الأرض من شيء إلا الشهيد، فإنه يتمنى أن يرجع فيقتل عشر مرات.)

واقع الجهاد والاستشهاد في العصر الحديث 

لم تكن مسألة الجهاد والاستشهاد مطروحة كموضوعة على طاولة النقاش حتى وقت قريب؛ لقد كان إجماع المسلمين ملحوظا بخصوص الجهاد في سبيل  تحرير الأوطان من الاستعمار الغاشم في كل بقعة من بلادهم؛ فـ” بواعث الجهاد ليست الاختلافات الفكرية أو السياسية أو العقدية، وإنما جاء الجهاد لرد الظلم والعدوان.” أي إنه ” دفاع عن الذات بما تشكل من وجود بشري ومقدسات عليا، أو للجم طغيان الآخر واعتدائه.”[6] وعلى الرغم من أن الغرب كان دائما، ومنذ العصور الوسطى، يبدي استياءه من الجهاد فعلا وفلسفة، بوصفه شكلا من أشكال العنف والعداء ضد الآخر، إلا أن أسلافنا استطاعوا أن يثبتوا أن الأمرين منفصلان.

لكن.. ومع التغيرات التي شهدها العالم منذ الحربين العالميتين خاصة، والخسارة التي مني بها العالم العربي والإسلامي على الصعيدين العسكري والسياسي، سواء في حروبه المريرة ضد الحملات الاستعمارية، أو ضد العدو الصهيوني، ازدادت الضغوط الغربية على العرب والمسلمين بهدف التخلي عن هذا المبدأ، بالإغراءات المادية تارة، وبالتهديدات الاقتصادية تارة ثانية، وبالاختراق الثقافي تارة أخرى.

وبما أن العرب في موقع ضعف اقتصاديا وعسكريا، فإنهم وجدوا أنفسهم مدفوعين على اللجوء إلى إعادة النظر في كثير من المبادئ التي كانت سابقا من الثوابت؛ فقد أصبح الجهاد يختلط مفهومه عند الغرب مع الإرهاب، والاستشهاد مع الانتحار، والتدين مع التشدد، مما أوقعهم في حرج كبير. فمسألة الجهاد مثلا(ليست مجالاً للنقاش في أصلها؛ لأنها قضية اعتقاد، فإن يكن هناك مثبطون عن الجهاد، أو لا يريدون الجهاد، أو يصرفون الناس عنه، أو يؤولون آيات الجهاد وأحكام الجهاد، فهذا شيء مرفوض)[7] ، فكيف يمكن أن يناقش على أنه متحول؟

وربما كانت القلاقل والمشاكل الداخلية التي مست كثيرا من البلاد العربية والإسلامية، والتي كان(التطرف الديني) عنوانها الأبرز بمشيئة المسلمين أو بدونها بمثابة الذريعة لأنصار التغيير والمراجعة وتحويل الثوابت. فقد شهدت مصر واليمن والجزائر والمملكة العربية السعودية، ودول أخرى فتنا ألبست لباس الإسلام بتشجيع من الغرب الذي بدا أنه وجد الفرصة الثمينة التي يستطيع من خلالها القضاء على هذه الظاهرة المزعجة التي تسمى الجهاد.

أما أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001، ورغم اختلاف المحللين في نسبتها وحيثياتها واليد التي تقف وراءها، فقد أعطت الغرب المبرر القوي ليس فقط ليقول إن الجهاد إرهاب بصريح اللفظ، بل لينتقل من الاتهام إلى الاعتداء على العرب والمسلمين بحكم أن بلادهم تفرخ الإرهاب وتنقله إلى بلاده. وهذا ما حدث في العراق وأفغانستان ولبنان وأخيرا في غزة بشكل واضح.

وهكذا تأزم الوضع بين فريقين في عالمنا العربي والإسلامي: فريق يرى أن الجهاد مبدأ إسلامي يجب أن لا يشوه أو يلغى، وأنه السلاح الموجه إلى كل الطغاة والكفرة أينما كانوا، وعلى المسلمين أن يصمدوا ويتمسكوا بمبادئهم أمام عواصف التغيير القادمة من كل مكان، وفريق يرى أنه شيء من الماضي انتهى بانتهاء الحروب (الدينية) التي شهدتها القرون الماضية. بل إنهم يذهبون إلى وصفه بالبربرية والدموية والظلامية، وما شئت من الأوصاف الغريبة الأخرى، كما يصفون الشهادة بالانتحار، فصاحبها انتحاري.

ولو أن الأمر انحصر في الجدل الفكري لكان أهون، لكنه تعدى إلى انعكاسات سلبية على الحياة العامة؛ فقد أجاز فريق من المتشددين لأنفسهم محاربة المجتمع وقتل الناس الأبرياء تحت مبدأ الجهاد، كما أجاز فريق آخر لنفسه هدم أسس الدين جملة، والانغماس في الحياة المادية وبخاصة الغربية منها تحت شعار(التحضر) أو (العولمة )، أو  (العالم الحر)، وما إليها من التسميات، فسقط الجهاد كما يرى يوسف القرضاوي بين فئة تريد إماتته، وأخرى تعلن به الحرب على العالم كله.[8]

وأمام وضع كهذا، كان لا بد لفريق ثالث أن يسعى جاهدا لإنقاذ الفريقين وتعقيلهما، والعودة بهما إلى الاعتدال المطلوب. وهي الجهود التي حمل لواءها الدعاة المخلصون، والعلماء الذين لهم باع طويل في مقارعة الباطل. وأذكر هنا على سبيل المثال لا الحصر جهود الاتحاد العالمي للعلماء المسلمين، الذي حاول علماؤه خلق التوازن في الأمر، سواء من خلال قراءة عصرية وعميقة لما يعرف بـ (فقه الجهاد)، أو من خلال البيانات التي كانت تصحح كثيرا من المفاهيم المغلوطة عند الفريقين السابقي الذكر.

خلاصة:

        لا يمكن بحال أن نسمي دفاع الإنسان عن دينه ووطنه  وعرضه بغير الجهاد أو المقاومة، وعلينا أن نحترمه في هذه الحال، ونشجعه ونثني عليه، على أن يكون في إطار جماعي منظم وشرعي. كما لا يمكن أن نسمي قتل الناس المسالمين واستباحة أموالهم وأعراضهم جهادا أو الموت على ذلك استشهادا، حتى وإن كان صاحبه يدعي الفقه والعلم الشرعيين. فـ(الإسلام- على خلاف ما يتصوَّره أو يصوِّره بعض الناس- يرغَب في السلام، ويحرص عليه، ويدعو إليه، ويعتبره هدفا أصيلا لدعوته، كما يتجلَّى ذلك في تعاليمه وأحكامه وآدابه.)لكنه لا يرضى أن يتقاعس الناس عن الدفاع عن حقوقهم، ورد العدوان عن ديارهم وأبنائهم، وهو المنطق التي تعترف به جميع الشرائع السماوية منها والأرضية قديما وحديثا؛ ففي غزة لا يمكن أن نسمي مقاومة الغزيين للغزاة الصهاينة بغير الجهاد؟ ولا يمكن أن نسمي قتلاهم في سبيل وطنهم بغير الشهداء؟

وفي الجزائر أيضا، يمكننا أن نرى الفرق واضحا بين جيل جسد الجهاد في سبيل الله والوطن، فحرر البلاد وعتق العباد في الثورة التحريرية المباركة، وبين جيل انتهج العنف والقتل على مدى سنين طويلة تحت عنوان الجهاد، وليس من ضحاياه سوى أناس مسلمين أو مسالمين، والجميع من جلدة واحدة واعتقاد واحد وانتماء واحد. فكيف يمكن أن نسمي قتل جندي أو دركي يسهر على أمن المواطن، أو مسافر في حافلة يقصد غرضا من أغراضه جهادا؟ إن العقل قبل العلم قادر على أن يدرك الفرق الشاسع بين الحالين.